فصل: الثَّانِي: تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ:

صباحاً 5 :35
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
19
الجمعة
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّانِي: تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ:

فَيُقَالُ: أَنَا وَزَيْدٌ فَعَلْنَا وَأَنْتَ وَزَيْدٌ تَفْعَلَانِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {بل أنتم قوم تجهلون} بِتَاءِ الْخِطَابِ غَلَّبَ جَانِبَ (أَنْتُمْ) عَلَى جَانِبِ (قوم) والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسْمُ غَيْبَةٍ وَلَكِنْ حَسُنَ آخِرُ الْخِطَابِ وَصْفًا لِـ: (قَوْمٌ) لِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. قال ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حالل لـ: {فتلك بيوتهم خاوية} لن في الضمير الْخِطَابِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ لِمُلَازَمَتِهِ لَهَا أَوْ لِمَعْنَاهَا لَكَانَ مُتَّجِهًا وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الصِّنَاعَةُ لَكِنْ يُبْعِدُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُمْ بِجَهْلٍ مُسْتَمِرٍّ لَا مَخْصُوصٍ بِحَالِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَقُلْ: (جَاهِلُونَ) إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ عِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ لِطَلَبِ آيَاتِ جَهْلِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَوْ قيل: إنما قال: (تجهلون) بِالتَّاءِ – لِأَنَّ (قَوْمٌ) هُوَ (أَنْتُمْ) فِي الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ، قَالَ: (تَجْهَلُونَ) حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى- لَكَانَ حَسَنًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حيدرة

بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى (أَنَا) لِأَنَّ الَّذِي هُوَ (أَنَا) فِي الْمَعْنَى.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك} غُلِّبَ فِيهِ جَانِبُ (أَنْتَ) عَلَى جَانِبِ (مَنْ) فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِيمُوا فَغُلِّبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ الْفِعْلُ فَصَارَ كَمَا تَرَى. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلْيَسْتَقِمْ كَذَلِكَ مَنْ تَابَ مَعَكَ.
وَمَا قُلْنَا أَقَلُّ تَقْدِيرًا مِنْ هَذَا فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ.
وقوله تعالى: {قال اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ (مَنْ تَبِعَكَ) يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ تَغْلِيبًا لِلْمُخَاطَبِ وَجُعِلَ الْغَائِبُ تَبَعًا لَهُ كَمَا كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَحَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قبلكم لعلكم تتقون} فإن الخطاب في (لعلكم) متعلق بقوله (خلقكم) لا بقوله (اعبدوا) حَتَّى يُخْتَصَّ بِالنَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ (اعْبُدُوا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وما ربك بغافل عما تعملون} فِيمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ: (مَا تَعْمَلُونَ) الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ سَامِعٍ أَبَدًا فَيَكُونُ تَغْلِيبًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خِطَابُ مَنْ سِوَاهُ بِدُونِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّغْلِيبِ لامتنان أَنْ يُخَاطَبَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ أَوْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:.......

.الثَّالِثُ: تَغْلِيبُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ:

بِأَنْ يَتَقَدَّمَ لَفْظٌ يَعُمُّ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَاقِلِ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقُولُ: (خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَرَزَقَهُمْ)، فَإِنَّ لَفْظَ (هُمْ) مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والله خلق كل دابة من ماء} لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الدَّابَّةِ وَالْمُرَادُ بِهَا عُمُومُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ غُلِّبَ مَنْ يعقل فقال: {فمنهم من يمشي}.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ فِي (فَمِنْهُمْ) لِأَنَّهُ لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَمِيعِ فَلِمَ قَالَ: (مَنْ) وَهُوَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَامِّ بَلْ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ؟.
قُلْتُ: (مَنْ) هُنَا بَعْضُ (هُمْ) وَهُوَ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِهِ لَفْظُ مَا لَا يَعْقِلُ؟.
قُلْتُ: مَنْ هُنَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِنَّهُ تَغْلِيبٌ مِنْ غَيْرِ عُمُومِ لَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ رَأَيْتُ ثَلَاثَةً زَيْدًا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الصائغ: (هُمْ) لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فَلَمَّا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ غَلَّبَ من يعقل فقال: (هم) ومن بَعْضُ هَذَا الضَّمِيرِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ فَلَزِمَ أَنْ يقول (من) فلما قال: بوقوع التَّغْلِيبِ فِي الضَّمِيرِ صَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَاقِلِينَ فَتَمَّمَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْقَعَ (مَنْ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: {قالتا أتينا طائعين}، إِنَّمَا جَمَعَهُمَا جَمْعَ.
السَّلَامَةِ، وَلَمْ يَقُلْ (طَائِعِينَ) وَلَا (طَائِعَاتٍ) لِأَنَّهُ أراد: ائنيا بِمَنْ فِيكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ طَائِعِينَ فَخَرَجَتِ الْحَالُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ كَمَا يَقُولُ الْآدَمِيُّونَ أَشْبَهَتَا الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَإِنَّمَا قَالَ: (طَائِعِينَ) وَلَمْ يقل: (مطيعين) لنه مِنْ طِعْنَا أَيِ انْقَدْنَا وَلَيْسَ مِنْ أَطَعْنَا يُقَالُ طَاعَتِ النَّاقَةُ تَطُوعُ طَوْعًا إِذَا انْقَادَتْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كل له قانتون}، قِيلَ: أَوْقَعَ (مَا) لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ ومالا يعقل فغلب مالا يَعْقِلُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَيُنَاقِضُهُ {كُلٌّ لَهُ قانتون}.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَاءَ بِـ: (مَا) تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ وَتَصْغِيرًا قَالَ: (لَهُ قَانِتُونَ) تَعْظِيمٌ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الضَّائِعِ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَهَذَا غَايَةُ الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ فِي دعاء الأصنام: {هل يسمعونكم إذ تدعون}.
وقوله: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} وأما قوله: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} وقوله: {في فلك يسبحون} {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}.
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين}.
{لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}. {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}.
لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَخْبَارِ الْآدَمِيِّينَ جَرَى ضَمِيرُهَا عَلَى حَدِّ مَنْ يَعْقِلُ وَكَذَا الْبَوَاقِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ غُلِّبَ غَيْرُ الْعَاقِلِ عَلَى الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض من دابة} فَإِنَّهُ لَوْ غُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ لَأَتَى بِـ: (مَنْ).
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ وَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِـ: (مَا) لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَجْنَاسِ مَنْ يعقل خاصة كهذه الآية.
قوله: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن} وَلَمْ يَقُلْ (وَمَنْ فِيهِنَّ) قِيلَ: لِأَنَّ كَلِمَةَ (مَا) تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَ: (مَنْ) لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ (مَا) هُنَا أَوْلَى.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يذرأكم فيه}، أَيْ خَلَقَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جِنْسِكُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ أَيْضًا مِنْ أَنْفُسِهَا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَذْرَؤُكُمْ أَيْ يُنْبِتُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَالْجَعْلِ فَهُوَ خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذِكْرُ الْجَمِيعِ- أَعَنَى النَّاسَ والأنعام- بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب (وفيه) تغليب الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ (كُمْ) الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ فَفِي لَفْظِ (كُمْ) تَغْلِيبَانِ وَلَوْلَا التَّغْلِيبُ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَذْرَؤُكُمْ وَإِيَّاهَا هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ.
وَنُوزِعَا فِيهِ بِأَنَّ جَعْلَ الْخِطَابِ شَامِلًا لِلْأَنْعَامِ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ النَّاسِ فَالْخِطَابُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: يُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي التَّدْبِيرِ حَيْثُ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَهَيَّأَ لَكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَاشِ وَتَدْبِيرِ التَّوَالُدِ وَجَعَلَهَا أَزْوَاجًا تَبْقَى بِبَقَائِكُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا وَهَذَا أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَرَّرُوهُ وَهُوَ جَعْلُ الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يذرأكم فيه} أَيْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، كَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ (بِهِ) كَمَا قَالَ: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَأَسْقَطَ السَّبَبِيَّةِ وَأَثْبَتَ (فِي) الظَّرْفِيَّةَ وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ إِعْجَازِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لِأَنَّ الْحَيَاةَ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَاخْتِيرَتْ (فِي) عَلَى الْبَاءِ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ التَّرْغِيبِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَالْقِصَاصُ مَسُوقٌ لِلتَّجْوِيزِ وَحُسْنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتقوى}.

.الرَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمُتَّصِفِ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} قيل: غلب غير المرتابين على المرتابين وَاعْتُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ قَطْعًا فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا بِذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا التَّغْلِيبُ ثُمَّ هِيَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهُمْ يَخُصُّ الجاحدين بقوله: {إن كنتم صادقين} وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ إِلَّا فِيهِمْ فَتَغْلِيبُ حَالِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ لَا عهد به في مخاطبات العرب.

.الْخَامِسُ: تَغْلِيبُ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ:

بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْجَمِيعِ وَصْفٌ يَخْتَصُّ بِالْأَكْثَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا} أُدْخِلَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {لَتَعُودُنَّ} بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {إِنْ عدنا في ملتكم}، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَادَ بِمَعْنَى صَارَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَنْشَدُوا:
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَ مَرَّةً ** إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ

وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْأَيَّامِ فَاعِلُ عَادَتْ وَإِنَّمَا الشَّاهِدُ فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ** شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا

وَيَحْتَمِلُ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لِشُعَيْبٍ ذَلِكَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ لَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَكُونُ لنا أن نعود فيها} كِنَايَةٌ عَنْ أَتْبَاعِهِ لِمُجَرَّدِ فَائِدَتِهِمْ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إِمْكَانُهُ شَرْعًا تَقْدِيرًا وَالِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّجُوعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ عَلِمَ الْعَبْدُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ أَدَبًا مع ربه لا شكا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُجَرَّدُ الْمُسَاكَنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ منها}. ونظيره: {ومطهرك من الذين كفروا} وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْهِجْرَةِ عَنْهُمْ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ لَهُمْ لَا جَوَابًا لَهُمْ. وَفِيهِ بُعْدٌ.

.السَّادِسُ: تَغْلِيبُ الْجِنْسِ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مَغْمُوزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمِيعِ:

كَقَوْلِهِ: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وَأَنَّهُ عُدَّ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ هُوَ الْأَصْلُ. وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَالْجِنُّ مِنَ النَّارِ».
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَلَكًا فَسُلِبَ الْمَلَكِيَّةَ وَأُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ فَحِينَئِذٍ عَمَّتْهُ الدَّعْوَةُ بِالْخُلْطَةِ لَا بِالْجِنْسِ فَيَكُونُ مِنْ تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ.
هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا وَلَمْ يُجْعَلْ (إِلَّا) بِمَعْنَى (لَكِنْ).
وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي (الْقَدِّ): قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذ قال الله يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين من دون الله} وإنما المتخذ عِيسَى دُونَ أُمِّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ:
لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ

.السَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِ عَلَى ما لم يوجد:

كقوله: {بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ الْمُرَادَ: الْمُنَزَّلُ كُلُّهُ وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُتَرَقَّبًا تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ.